محمد الحاقان
15-03-2012, 04:33 AM
العقل في قفص الاتهام !
محمد بن علي المحمود
قبل خمس سنوات تقريباً، شارك الناقد المصري الكبير : الدكتور صلاح فضل في ندوة علمية في كلية اليمامة بالرياض، وكان من بين الإشكاليات التي تم طرحها للمناقشة : إشكالية الليبرالية، وإن تم ذلك على نحو عرضي. آنذاك تعمد بعض المتحدثين بلسان الجمهور التقليدي مناقشة موضوع الليبرالية على نحو غير علمي، أي على نحو اتهامي ( على نحو ينقلها من إشكالية معرفية إلى تهمة جاهزة )، بحيث تصبح الليبرالية تهمة يجب على المتحدث أو المحاضر نقدها وتفنيدها، أو في أحسن الأحوال، تجاوزها بما يناسب الموقف من أساليب الالتفاف والروغان، تلك الأساليب التي لا تمت إلى المعرفة بسبب، وإنما هي طوق نجاة للمثقفين في زمن التطرف والإرهاب ؛ عندما تكون الحوارات المعرفية محض مُساءلة واستجواب.
عملية محاصرة العقل من قِبَل ثقافة التقليد، هي عملية تتكئ على تراث تقليدي هائل من الاسترابة بالعقل ( تراث قديم وجديد، حيث المؤلفات والدراسات في تجريم العقل والعقلانية والتتنوير والحداثة...إلخ )
كانت المفاجأة أن الناقد الكبير صُدم بهذا الموقف التقليدي من الليبرالية، صُدم من حقيقة واقعية اصطدم بها وجها لوجه، صُدم من حقيقة لم يكن يتوقع وجودها ولو في الخيال، وهي أن هناك ( بشرا ) لا يزالون يُفكرون على هذا النحو القروسطي من الانغلاق اللامحدود.
لم يتصور صلاح فضل، وهو الناقد والمفكر المنفتح بدرجة انفتاح عالم الأدب ورحابته، أن الليبرالية التي تنحاز إلى حرية الإنسان وكرامة الإنسان ( ومن ثم إلى جوهر وجوده كذات متفردة )، وإلى تحرير الإنسان حتى من الإنسان ( الإنسان الفرد / الحقيقي واقعيا، من الإنسان المجموع / الوهمي تصورا )، ستكون تهمة في أية بيئة، حتى ولو كانت بيئة تختنق بركام جهالات وحماقات، بل وهلوسات التقليدية والتقليديين.
واجه الدكتور صلاح فضل الموقف بشجاعة وصراحة قلّما يجرؤ عليها غريب في بيئة تقليدية ملتهبة بالتطرف، وأعرب عن دهشته الكبيرة من كون الليبرالية التي هي مطمح الشعوب جميعاً في مشارق الأرض ومغاربها تهمة تحتاج إلى الاعتذار أو التبرير. بل صرّح أن الليبرالية مفخرة، وأنها موضع الثناء والفخر في كل المجتمعات الإنسانية، وأنه ليبرالي، وأن الحساسية تجاه هذا المصطلح لا مبرر لها، ويجب أن تزول.
هذا موقف طبيعي من الدكتور صلاح فضل ؛ لأنه موقف العارف بجوهر الليبرالية كمنظومة فلسفية، والمدرك لحجم إنجازاتها الإنسانية عبر مسيرتها التاريخية، والقادر بعد هذا وذاك على استشراف الإمكانيات الواعدة الكامنة فيها. إنه يدرك ماذا تعني، وإلى ما ترمي، إنه يستحضر في وعيه الزمن الليبرالي المصري في النصف الأول من القرن العشرين، ويقارنه بالزمن الكلياني الاستبدادي في النصف الثاني منه. وبهذا، فصلاح فضل ليس كدراويش التقليدية الذين يتصورون الليبرالية مجرد موضة فكرية جديدة ؛ لمجرد أن انغلاقهم جعلهم لا يتعرفون عليها إلا منذ بضع سنوات، وعلى نحو مبستر ومشوه، وإذا ما حاولوا الخروج من خنادقهم، والتماس شيء من المعرفة ؛ عرّجوا قليلا على بعض المعاجم والقواميس، ونقلوا بضعة تعاريف وتوصيفات اختزالية، وكأنهم حازوا المعرفة من أقطارها، بينما هي تعاريف وتوصيفات تعجز عن استيعاب عوالم هذا المصطلح الإشكالي الكبير.
ما ذكّرني بهذا الموقف التقليدي من الليبرالية هو ما نراه اليوم من موقف تقليدي متشنج ضد العقل، ضد مفهوم العقل، وضد تنوع العقل، وضد تراث العقل، وضد ممارسات العقل...إلخ. ما نراه من انحياز إلى الجهل بشتى مبررات الانغلاق، من تشكيك بقدرات العقل الإنساني، لا من أجل تطويره، بل من أجل تحديده وتقييده، بل ونحره قربانا لأردأ وأجهل وأعنف صور التقليد، هو ما قادني إلى تذكر هذا الموقف، والوقوف عنده ؛ لتأمل مسارنا الثقافي، وإلى أين تقف بنا الأحداث.
صحيح ان موقف التقليدية السلبي من العقل ليس وليد اللحظة، صحيح أنها ( = التقليدية ) تتجذر في تراث معادٍ أشد ما يكون العداء للعقل، وصحيح أنها طالما تقدمت بمشاريع إرشادية / توجيهية ( لا أقول معرفية ؛ فعنما يحضر التوجيه تسقط المعرفة ) مناهضة على نحو صريح أو ضمني لكل محاولات الانفعال بثقافة العقل، بل وصحيح أنها كثيرا ما حذّرت صراحة من العقل، وأكدت على ضرورة قولبته وتشريطه ( تكبيله بحزمة من الشروط التي تفقده معناه ) ليكون مجرد آلية جدلية للدفاع عن التقليد. كل هذا صحيح، لكن ما يجري اليوم هو شيء يتجاوز كل هذا. فالتقليديون أعلنوا الحرب على العقل، أعلنوا حالة الطوارئ ؛ بزعم أن العقل أخذ يعيث في الأرض فسادا، وأنه أزاغ قلوب كثيرين من الأغرار، ومن ثم لا بد من القبض عليه متلبسا بجريمة الإضلال، وتقديمه إلى محاكمة عسكرية أعدت له مسبقاً حكم الإعدام !.
اليوم تجري عملية محاصرة العقل بصور شتى. أحيانا من خلال ربطه بالتوجهات الليبرالية تخصيصاً، وأحياناً من خلال ربطه بالتوجهات التغريبية تعميماً، وفي أحايين أخرى عن طريق ربط فاعليته بنتائج الانفتاح على العالم اللامحدود، عالم المعرفة وعالم الإنسان.
طبعا، عملية محاصرة العقل من قِبَل ثقافة التقليد، هي عملية تتكئ على تراث تقليدي هائل من الاسترابة بالعقل ( تراث قديم وجديد، حيث المؤلفات والدراسات في تجريم العقل والعقلانية والتتنوير والحداثة...إلخ )، من التوجس من العقل، ابتداء من زمن التقليدية الأول : زمن تصنيف تطلعات العقل في خانة : الأهواء والبدع، مرورا بخرافات وتلفيقات درء التعارض، وانتهاء بالمناداة الهوسية المطالبة علانية بإغلاق منافذ المعرفة، وتصفيد مردة الانفتاح. وهو ما يبدو ظاهريا في الحرب المعلنة على المعرفة من خلال الحرب على الكتاب، في كل مناسبة للكتاب.
يُصرّح التقليديون الانغلاقيون اليوم بأن العقل جرّ عليهم المشاكل، بل يُصرّحون بأن الممارسة الثقافية الانفتاحية المتكئة على أولوية تقدير وتفعيل العقل، قادت كثيرين إلى التمرد الفكري على الموروث، وإلى عدم المبالاة بالتقاليد ذات القداسة، وأنه لولا العقل لانتشرت ثقافة التسليم، ولأصبح الناس راضين بأن يتم تدجينهم بمقولات الأسلاف.
بعض التقليديين يتذاكون ولا يُصرّحون بهذا العداء للعقل، ويكتفون بالتشكيك بالعقل، وأحيانا بوضع القيود على العقل. ومعلوم أن العقل المعتقل بشروط التقليد ليس عقلا. العقل الذي يتم تحديد مساراته سلفا ليس عقلا، بل هو بُنية تقليد. العقل الذي تُوضع له الشروط والحدود ليس عقلا، بل هو وَهْم عقل يتم وضعه بإزاء العقل ؛ من أجل محاصرة العقل الحر، العقل الحقيقي.
العقل الحقيقي هو العقل الحر، العقل المتحرر، العقل الذي لا مرجعية له إلا في ذاته، العقل المتحرر تماما من كل الشروط، ومن كل القيود، ومن كل الافتراضات المسبقة أيا كانت أهميتها أو أيا كانت قداستها. العقل الحقيقي هو العقل الحر الذي لا يخضع حتى لشروط العقل ذاته ؛ إن كان ثمة له من شروط ؛ ولو على نحو افتراضي.
العقل الحقيقي هو العقل المتمرد حتى على العقل ذاته، الناقد لذاته، الناقض لذاته، المتجاوز لذاته بذاته ؛ ليصبح بعد ذلك صيرورة في الإنسان والتاريخ، أو في التاريخ من خلال الإنسان. عندما يقنع العقل بحدود ما، حتى ولو كانت نتاج فاعليته، يتنازل عن كونه عقلا، يستحيل إلى آلية تقليد وتبليد، أي إلى أداة قامعة للعقل باسم العقل.
يستحيل أن ينتج العقل ذاته من خلال ثقافة واحدة. العقل كفاعلية ديناميكية يحضر من خلال جدلية الاختلاف القائم على التنوع والتضاد. لهذا تجد المجتمعات التي تهيمن عليها ثقافة واحدة، يغلب عليها النقل، ويكاد العقل يختفي من أجوائها الثقافية تماما.
مجتمعات الثقافة الواحدة هي مجتمعات الذاكرة، وهي في الوقت نفسه المجتمعات القاتلة للعقل ضرورة ؛ لأن إحساسها بالحاجة إلى العقل معدوم، فالمعرفة لديها ليست المعرفة الحقيقة، ليست المعرفة العقلية التي ينتجها العقل، ويفحصها العقل، وتكتسب صلاحيتها من خلال عمل العقل عليها، وإنما هي المنقولات التي اكتسبت احترامها بفعل القدامة، لا بمستوى نجاعتها في علاقتها بالواقع العملي، الذي هو المحك الأخير لكل الفعاليات العقلية التي يجترحها الإنسان.
من الواضح جدا أن محاربة الكتاب، بأية صورة من صور الحرب، ليست إلا جزءا من محاربة العقل. لا يوجد أحد يمكن أن يحارب الكتاب علانية، ثم لا يحس بالعار ؛ إلا التقليدي في مجتمعات التقليد. الكتاب تهمة في نظر التقليدي، حتى يثبت العكس. والعكس هنا، أن يتوافق الكتاب مع السائد التقليدي، أن يؤكد الكتاب القناعات السائدة التي يروج لها التقليدي ويُؤمّن عليها. أي أن الموافقة على الكتاب في السياق التقليدي، ومن ثم الموافقة على المعرفة، مشروطة بأن تكون خاضعة لتصورات التقليدي عن المعرفة، بحيث ينتفي الاختلاف والتنوع لصالح التصور الواحد، وهو التصور الذي يقتل العقل حتما. وهذا غاية ما يطمح إليه التقليديون ؛ ليتمكنوا من تطويع الأتباع والمريدين.
يستطيع سدنة ثقافة التقليد تطويع التقليديين الذين يجترون مقولات الأقدمين المحاطة بالتعظيم والتبجيل، يستطيعون تطويع أبناء الثقافة الواحدة. ولكنهم لا يستطيعون تطويع أبناء ثقافة الاختلاف، لا يستطيعون تطويع أولئك الذين تعترك في عقولهم المقولات المتضادة، والذين إن اقتنعوا بفكرة أو مقولة لم تتجاوز قناعتهم بها دائرة الاحتمالات ؛ لأن العقل هو ميدان الاحتمال المفتوح، المفتوح بشكل لانهائي، وهو في الوقت نفسه عدو المطلق والنهائي، أي عدو الانغلاق.
لقد استخدم غلاة التقليديين كل شيء في سبيل كبح جماح الانفتاح. كل أنواع الخداع المشروع واللامشروع، وكل صور المكر الخفي وغير الخفي. أثاروا الشائعات حول المبتعثين والمبتعثات ؛ إلى درجة الاتهام الصريح لمعظمهم بالانحراف، بل إلى درجة الدعوة لطي أجمل صفحة في تاريخنا التنموي والثقافي : صفحة الابتعاث. استخدموا كل شيء من أجل الحشد، عن طريق استدرار عواطف البسطاء والسذج ؛ كي يُشيعوا توجساً اجتماعياً عاما ضد ثقافة الانفتاح. استخدموا حتى الدموع الكاذبة، ونوبات البكاء الحادة المُفتعلة، في مهازل تمثيلية مفضوحة، تشنجات تدعي الغيرة، وتدعو للقتل، بينما هي لا تزيد عن كونها مسرحية استهبالية فاشلة ؛ لا تستطيع تمرير فشلها إلا على بؤساء التقليدية وبقايا مُغفلي زمن الغفوة البائد، زمن كان فيه هذا الممثل النازي الفاشل في مَسْرَحة بكائيته اليوم، الفاشل في أداء أبسط الأدوار التمثيلية، من خبراء المستقبليات والاستراتيجيات آنذاك!.
لقد فهم المتنبي قبل أكثر من عشرة قرون خطورة خداع الدموع في الحب، ولكنه لم يكن يتصور أن تصل المتاجرة بالدموع الكاذبة إلى مناطق أكثر قداسة واحتراما، دموع يتعدى الخداع بها مصلحة الفرد إلى مصلحة الوطن. قال المتنبي :
إذا اشتبهت دموع في خدود تبين من بكى ممن تباكى
والناقد الذي يستخدم عقله عند تلقي هذه المشاهد، يدرك أن الدموع لم تشتبه، بل كل زيفها واضحا، إذ كان سياقها يتعمد التجييش بوضوح، يتعمد أن يحشد للتيار ومن أجل التيار الإيديولوجي، يتوسل عواطف الناس كي يضعها في رصيده الحركي. ومن هنا كان خوفهم وفزعهم من العقل، العقل الناقد الذي لا يَقرأ المشاهد قراءة عابرة، بل يحاول استشراف ما وراءها من تطلعات وآمال ورغبات، العقل الذي يحاول أن يعرف من المستفيد الحقيقي من دموع كاذبة تدعو إلى البطش والقتل والانتقام!.
محمد بن علي المحمود
قبل خمس سنوات تقريباً، شارك الناقد المصري الكبير : الدكتور صلاح فضل في ندوة علمية في كلية اليمامة بالرياض، وكان من بين الإشكاليات التي تم طرحها للمناقشة : إشكالية الليبرالية، وإن تم ذلك على نحو عرضي. آنذاك تعمد بعض المتحدثين بلسان الجمهور التقليدي مناقشة موضوع الليبرالية على نحو غير علمي، أي على نحو اتهامي ( على نحو ينقلها من إشكالية معرفية إلى تهمة جاهزة )، بحيث تصبح الليبرالية تهمة يجب على المتحدث أو المحاضر نقدها وتفنيدها، أو في أحسن الأحوال، تجاوزها بما يناسب الموقف من أساليب الالتفاف والروغان، تلك الأساليب التي لا تمت إلى المعرفة بسبب، وإنما هي طوق نجاة للمثقفين في زمن التطرف والإرهاب ؛ عندما تكون الحوارات المعرفية محض مُساءلة واستجواب.
عملية محاصرة العقل من قِبَل ثقافة التقليد، هي عملية تتكئ على تراث تقليدي هائل من الاسترابة بالعقل ( تراث قديم وجديد، حيث المؤلفات والدراسات في تجريم العقل والعقلانية والتتنوير والحداثة...إلخ )
كانت المفاجأة أن الناقد الكبير صُدم بهذا الموقف التقليدي من الليبرالية، صُدم من حقيقة واقعية اصطدم بها وجها لوجه، صُدم من حقيقة لم يكن يتوقع وجودها ولو في الخيال، وهي أن هناك ( بشرا ) لا يزالون يُفكرون على هذا النحو القروسطي من الانغلاق اللامحدود.
لم يتصور صلاح فضل، وهو الناقد والمفكر المنفتح بدرجة انفتاح عالم الأدب ورحابته، أن الليبرالية التي تنحاز إلى حرية الإنسان وكرامة الإنسان ( ومن ثم إلى جوهر وجوده كذات متفردة )، وإلى تحرير الإنسان حتى من الإنسان ( الإنسان الفرد / الحقيقي واقعيا، من الإنسان المجموع / الوهمي تصورا )، ستكون تهمة في أية بيئة، حتى ولو كانت بيئة تختنق بركام جهالات وحماقات، بل وهلوسات التقليدية والتقليديين.
واجه الدكتور صلاح فضل الموقف بشجاعة وصراحة قلّما يجرؤ عليها غريب في بيئة تقليدية ملتهبة بالتطرف، وأعرب عن دهشته الكبيرة من كون الليبرالية التي هي مطمح الشعوب جميعاً في مشارق الأرض ومغاربها تهمة تحتاج إلى الاعتذار أو التبرير. بل صرّح أن الليبرالية مفخرة، وأنها موضع الثناء والفخر في كل المجتمعات الإنسانية، وأنه ليبرالي، وأن الحساسية تجاه هذا المصطلح لا مبرر لها، ويجب أن تزول.
هذا موقف طبيعي من الدكتور صلاح فضل ؛ لأنه موقف العارف بجوهر الليبرالية كمنظومة فلسفية، والمدرك لحجم إنجازاتها الإنسانية عبر مسيرتها التاريخية، والقادر بعد هذا وذاك على استشراف الإمكانيات الواعدة الكامنة فيها. إنه يدرك ماذا تعني، وإلى ما ترمي، إنه يستحضر في وعيه الزمن الليبرالي المصري في النصف الأول من القرن العشرين، ويقارنه بالزمن الكلياني الاستبدادي في النصف الثاني منه. وبهذا، فصلاح فضل ليس كدراويش التقليدية الذين يتصورون الليبرالية مجرد موضة فكرية جديدة ؛ لمجرد أن انغلاقهم جعلهم لا يتعرفون عليها إلا منذ بضع سنوات، وعلى نحو مبستر ومشوه، وإذا ما حاولوا الخروج من خنادقهم، والتماس شيء من المعرفة ؛ عرّجوا قليلا على بعض المعاجم والقواميس، ونقلوا بضعة تعاريف وتوصيفات اختزالية، وكأنهم حازوا المعرفة من أقطارها، بينما هي تعاريف وتوصيفات تعجز عن استيعاب عوالم هذا المصطلح الإشكالي الكبير.
ما ذكّرني بهذا الموقف التقليدي من الليبرالية هو ما نراه اليوم من موقف تقليدي متشنج ضد العقل، ضد مفهوم العقل، وضد تنوع العقل، وضد تراث العقل، وضد ممارسات العقل...إلخ. ما نراه من انحياز إلى الجهل بشتى مبررات الانغلاق، من تشكيك بقدرات العقل الإنساني، لا من أجل تطويره، بل من أجل تحديده وتقييده، بل ونحره قربانا لأردأ وأجهل وأعنف صور التقليد، هو ما قادني إلى تذكر هذا الموقف، والوقوف عنده ؛ لتأمل مسارنا الثقافي، وإلى أين تقف بنا الأحداث.
صحيح ان موقف التقليدية السلبي من العقل ليس وليد اللحظة، صحيح أنها ( = التقليدية ) تتجذر في تراث معادٍ أشد ما يكون العداء للعقل، وصحيح أنها طالما تقدمت بمشاريع إرشادية / توجيهية ( لا أقول معرفية ؛ فعنما يحضر التوجيه تسقط المعرفة ) مناهضة على نحو صريح أو ضمني لكل محاولات الانفعال بثقافة العقل، بل وصحيح أنها كثيرا ما حذّرت صراحة من العقل، وأكدت على ضرورة قولبته وتشريطه ( تكبيله بحزمة من الشروط التي تفقده معناه ) ليكون مجرد آلية جدلية للدفاع عن التقليد. كل هذا صحيح، لكن ما يجري اليوم هو شيء يتجاوز كل هذا. فالتقليديون أعلنوا الحرب على العقل، أعلنوا حالة الطوارئ ؛ بزعم أن العقل أخذ يعيث في الأرض فسادا، وأنه أزاغ قلوب كثيرين من الأغرار، ومن ثم لا بد من القبض عليه متلبسا بجريمة الإضلال، وتقديمه إلى محاكمة عسكرية أعدت له مسبقاً حكم الإعدام !.
اليوم تجري عملية محاصرة العقل بصور شتى. أحيانا من خلال ربطه بالتوجهات الليبرالية تخصيصاً، وأحياناً من خلال ربطه بالتوجهات التغريبية تعميماً، وفي أحايين أخرى عن طريق ربط فاعليته بنتائج الانفتاح على العالم اللامحدود، عالم المعرفة وعالم الإنسان.
طبعا، عملية محاصرة العقل من قِبَل ثقافة التقليد، هي عملية تتكئ على تراث تقليدي هائل من الاسترابة بالعقل ( تراث قديم وجديد، حيث المؤلفات والدراسات في تجريم العقل والعقلانية والتتنوير والحداثة...إلخ )، من التوجس من العقل، ابتداء من زمن التقليدية الأول : زمن تصنيف تطلعات العقل في خانة : الأهواء والبدع، مرورا بخرافات وتلفيقات درء التعارض، وانتهاء بالمناداة الهوسية المطالبة علانية بإغلاق منافذ المعرفة، وتصفيد مردة الانفتاح. وهو ما يبدو ظاهريا في الحرب المعلنة على المعرفة من خلال الحرب على الكتاب، في كل مناسبة للكتاب.
يُصرّح التقليديون الانغلاقيون اليوم بأن العقل جرّ عليهم المشاكل، بل يُصرّحون بأن الممارسة الثقافية الانفتاحية المتكئة على أولوية تقدير وتفعيل العقل، قادت كثيرين إلى التمرد الفكري على الموروث، وإلى عدم المبالاة بالتقاليد ذات القداسة، وأنه لولا العقل لانتشرت ثقافة التسليم، ولأصبح الناس راضين بأن يتم تدجينهم بمقولات الأسلاف.
بعض التقليديين يتذاكون ولا يُصرّحون بهذا العداء للعقل، ويكتفون بالتشكيك بالعقل، وأحيانا بوضع القيود على العقل. ومعلوم أن العقل المعتقل بشروط التقليد ليس عقلا. العقل الذي يتم تحديد مساراته سلفا ليس عقلا، بل هو بُنية تقليد. العقل الذي تُوضع له الشروط والحدود ليس عقلا، بل هو وَهْم عقل يتم وضعه بإزاء العقل ؛ من أجل محاصرة العقل الحر، العقل الحقيقي.
العقل الحقيقي هو العقل الحر، العقل المتحرر، العقل الذي لا مرجعية له إلا في ذاته، العقل المتحرر تماما من كل الشروط، ومن كل القيود، ومن كل الافتراضات المسبقة أيا كانت أهميتها أو أيا كانت قداستها. العقل الحقيقي هو العقل الحر الذي لا يخضع حتى لشروط العقل ذاته ؛ إن كان ثمة له من شروط ؛ ولو على نحو افتراضي.
العقل الحقيقي هو العقل المتمرد حتى على العقل ذاته، الناقد لذاته، الناقض لذاته، المتجاوز لذاته بذاته ؛ ليصبح بعد ذلك صيرورة في الإنسان والتاريخ، أو في التاريخ من خلال الإنسان. عندما يقنع العقل بحدود ما، حتى ولو كانت نتاج فاعليته، يتنازل عن كونه عقلا، يستحيل إلى آلية تقليد وتبليد، أي إلى أداة قامعة للعقل باسم العقل.
يستحيل أن ينتج العقل ذاته من خلال ثقافة واحدة. العقل كفاعلية ديناميكية يحضر من خلال جدلية الاختلاف القائم على التنوع والتضاد. لهذا تجد المجتمعات التي تهيمن عليها ثقافة واحدة، يغلب عليها النقل، ويكاد العقل يختفي من أجوائها الثقافية تماما.
مجتمعات الثقافة الواحدة هي مجتمعات الذاكرة، وهي في الوقت نفسه المجتمعات القاتلة للعقل ضرورة ؛ لأن إحساسها بالحاجة إلى العقل معدوم، فالمعرفة لديها ليست المعرفة الحقيقة، ليست المعرفة العقلية التي ينتجها العقل، ويفحصها العقل، وتكتسب صلاحيتها من خلال عمل العقل عليها، وإنما هي المنقولات التي اكتسبت احترامها بفعل القدامة، لا بمستوى نجاعتها في علاقتها بالواقع العملي، الذي هو المحك الأخير لكل الفعاليات العقلية التي يجترحها الإنسان.
من الواضح جدا أن محاربة الكتاب، بأية صورة من صور الحرب، ليست إلا جزءا من محاربة العقل. لا يوجد أحد يمكن أن يحارب الكتاب علانية، ثم لا يحس بالعار ؛ إلا التقليدي في مجتمعات التقليد. الكتاب تهمة في نظر التقليدي، حتى يثبت العكس. والعكس هنا، أن يتوافق الكتاب مع السائد التقليدي، أن يؤكد الكتاب القناعات السائدة التي يروج لها التقليدي ويُؤمّن عليها. أي أن الموافقة على الكتاب في السياق التقليدي، ومن ثم الموافقة على المعرفة، مشروطة بأن تكون خاضعة لتصورات التقليدي عن المعرفة، بحيث ينتفي الاختلاف والتنوع لصالح التصور الواحد، وهو التصور الذي يقتل العقل حتما. وهذا غاية ما يطمح إليه التقليديون ؛ ليتمكنوا من تطويع الأتباع والمريدين.
يستطيع سدنة ثقافة التقليد تطويع التقليديين الذين يجترون مقولات الأقدمين المحاطة بالتعظيم والتبجيل، يستطيعون تطويع أبناء الثقافة الواحدة. ولكنهم لا يستطيعون تطويع أبناء ثقافة الاختلاف، لا يستطيعون تطويع أولئك الذين تعترك في عقولهم المقولات المتضادة، والذين إن اقتنعوا بفكرة أو مقولة لم تتجاوز قناعتهم بها دائرة الاحتمالات ؛ لأن العقل هو ميدان الاحتمال المفتوح، المفتوح بشكل لانهائي، وهو في الوقت نفسه عدو المطلق والنهائي، أي عدو الانغلاق.
لقد استخدم غلاة التقليديين كل شيء في سبيل كبح جماح الانفتاح. كل أنواع الخداع المشروع واللامشروع، وكل صور المكر الخفي وغير الخفي. أثاروا الشائعات حول المبتعثين والمبتعثات ؛ إلى درجة الاتهام الصريح لمعظمهم بالانحراف، بل إلى درجة الدعوة لطي أجمل صفحة في تاريخنا التنموي والثقافي : صفحة الابتعاث. استخدموا كل شيء من أجل الحشد، عن طريق استدرار عواطف البسطاء والسذج ؛ كي يُشيعوا توجساً اجتماعياً عاما ضد ثقافة الانفتاح. استخدموا حتى الدموع الكاذبة، ونوبات البكاء الحادة المُفتعلة، في مهازل تمثيلية مفضوحة، تشنجات تدعي الغيرة، وتدعو للقتل، بينما هي لا تزيد عن كونها مسرحية استهبالية فاشلة ؛ لا تستطيع تمرير فشلها إلا على بؤساء التقليدية وبقايا مُغفلي زمن الغفوة البائد، زمن كان فيه هذا الممثل النازي الفاشل في مَسْرَحة بكائيته اليوم، الفاشل في أداء أبسط الأدوار التمثيلية، من خبراء المستقبليات والاستراتيجيات آنذاك!.
لقد فهم المتنبي قبل أكثر من عشرة قرون خطورة خداع الدموع في الحب، ولكنه لم يكن يتصور أن تصل المتاجرة بالدموع الكاذبة إلى مناطق أكثر قداسة واحتراما، دموع يتعدى الخداع بها مصلحة الفرد إلى مصلحة الوطن. قال المتنبي :
إذا اشتبهت دموع في خدود تبين من بكى ممن تباكى
والناقد الذي يستخدم عقله عند تلقي هذه المشاهد، يدرك أن الدموع لم تشتبه، بل كل زيفها واضحا، إذ كان سياقها يتعمد التجييش بوضوح، يتعمد أن يحشد للتيار ومن أجل التيار الإيديولوجي، يتوسل عواطف الناس كي يضعها في رصيده الحركي. ومن هنا كان خوفهم وفزعهم من العقل، العقل الناقد الذي لا يَقرأ المشاهد قراءة عابرة، بل يحاول استشراف ما وراءها من تطلعات وآمال ورغبات، العقل الذي يحاول أن يعرف من المستفيد الحقيقي من دموع كاذبة تدعو إلى البطش والقتل والانتقام!.