عبدالله الناصر
بعض المتفلسفين لدينا يعتقد أن الفلسفة مثل مهنة السباكة والنجارة والحدادة ، فبمجرد أن يتعلم المهنة يصبح عارفا بها متقناً لها.!! والمسألة ليست كذلك ، بل هي أبعد من أن تكون كذلك ، فليس كل من قرأ في الفلسفة كثيراً أو قليلاً صار فيلسوفاً..
فالفلسفة قبل القراءة والكتابة هي موهبة مثل موهبة الشعر والرسم والغناء والنحت, ومن بعدها يأتي دور المعرفة وقراءة تجارب الآخرين.. لكن بعض متفلسفينا والذين طلعوا علينا فجاة ، وهكذا وبدون سابق إنذار!! فإنهم يشبهون ضفدعة "لافوتين" والتي عندما رأت الجاموسة أرادت ان تكون بحجمها ، فاخذت تعب الماء حتى انفجر بطنها ولم تتحول إلى جاموسة!!
وما أكثر ضفادع الفلسفة اليوم ، فلقد أصبح باب الثقافة واسعاً سعة سماء الفضائيات التي أخذت تبث الهراء والمسخرة ، والجهل أكثر مما تبث الاحترام والمعرفة ، ومن ثم فإنها راحت تتحدث عن كل شيء ، وتنقب عن الشيء واللاشيء لسد فراغها بكل زبد وطفح ، بل بكل الخرق المهترئة والبالية!! ولهذا كثر المهرجون ، والمشعوذون، ودراويش الثقافة "وكديش" الفلسفة من الذين يتم تسليط الضوء عليهم من هذه القنوات .. تماماً كما كثر الردح والرمح والشطح ،وكأن الناس سكارى وماهم بسكارى ولكن بلاء البث شديد..!!
قلت : ان الفلسفة ليست بالتفلسف ولهذا فإنه من السذاجة ومن السماجة ان يسمح لبعضهم بتقديم نفسه كفيلسوف ، فينفش ريشه كالديك الرومي ويبدأ يتبهنس وينق ، مع أنه لا أحد يسمع نقيقه إلا هو.. فيصدق نفسه بثقة وطمانينة ، ويقول : انا أخرط إذاً أنا فيلسوف..!!
هذه مخرقة.. فالفلسفة ياسادة مسألة إبداعية قد يدركها الإنسان البسيط ، ويحولها إلى مفهوم عظيم من غير أن يدرك بانها فلسفة ، وبدون ان ينفش ريشه وينق كل هذا النقيق ، وينعق كل هذا النعيق.
فيروى أن احد القرويين الاميين زار اخاً له في بيته في المدينة ، وكان الأخ مزهواً بثقافته، فأخذ بأخيه الزائر وأراه غرفة قد اتخذها مكتبة وكانت مليئة بمختلف الكتب، وقال لأخيه في استعلاء وأبهة : هل تعلم يا أخي أنني قرات هذه الكتب كلها؟.. فقال الأخ في استخفاف : ولماذا تجهد نفسك كل هذا الاجهاد؟.. انا اعرف كل مافيها دون أن اقرأها..!!
فاستغرب الأخ وقال : كيف؟
قال : انا متأكد أن هذه الكتب تقول شيئاً واحدا قال: وماهو؟.. قال إنها تقول: "خلك خوش رجال" أي كن رجلاً ممتازاً .!! أي أن هذه الكتب كلها تحث على شيء واحد وهو الفضيلة الإنسانية.. وهذا ما تسعى إليه الفلسفة في غالب أمرها.. قد لا يكون مانطق به هذا القروي فلسفة بمعناها الحقيقي، ولكنها فلسفة البسطاء من الناس، إن فيها ذلك الملح الساذج ، ولكنه في سذاجته قريب إلى الوعي بالأمور الإنسانية دونما مماحكة أو تمويه، فالفلاسفة هم أبناء الإلهام..
كم أتمنى ان يخرج من بين ظهرانينا فيلسوف عظيم ك "الكندي" أو أعمى المعرة أو ابن رشد أوالفارابي الذي ألف معظم كتبه تحت أضواء قناديل الحراس ..!! ولكن الفلاسفة لا يخرجون من حاضنة البيض... إنهم كالازاهير البرية النادرة التي لا تنبت إلا في مناخات وأجواء نادرة .. فليس الفيلسوف هو من يتكئ على غيره ، فيسهر الليل كله يقرأ ويجمع ثم يخرج إلينا بعد أن تلبكت أمعاؤه العقلية فيأخذ يردد في غثيان ، وفي غير وعي وحكمة ما كان قد قرأه ، بل يأخذ في تسطير عبارات مرقعة ، أو مجتزأة ، ابتسرها ، أو نقلها ورصها بعد زحير وزفير من شدة إجهاد الترقيع ، والتدوير ، والتربيع ، فإذا سار في كتابته قليلاً انقطع نفسه ووقف وسط العقبة كما وقف حمار الشيخ..!! الفلسفة يا سادة ليست التبجح، برأي مسروق، ولا رجم عقول الناس بالتخلف وغض الطرف عن أسباب التخلف الحقيقي.. فما أسهل هذا وأبسطه على المهووسين والمشغوفين بركوب حمير الشهرة..
الفيلسوف الحقيقي ليس من يمارس التشنيع، والكراهية والتجديف ، والتشهير الانتقائي، ويجبن أمام المعضلات الحقيقية لا .. فالفلسفة أولاً هي فن وموهبة ثم هي أن تقرأ وتمحص ، وتَتَبخَّص ، وتستنتج ، وتنتج بعد أن تنخل بغربال عقلك كل شيء ، وأن تكون جسورا في تعرية كل شي..ء هي أن تضيف شيئاً جديداً ووعياً جديداً، وألا تردد عبارات وأقوال مستهجنة سبقك غيرك بها، وألا تستعير عقل غيرك في التفكير ، وإلا فإنك ببغاء من النوع الرديء وماأكثر الببغاوات والذين أصبحوا فلاسفة في هذا الزمن المتفسخ القميء..